الآيات الأرضية ودلالتها وفي الأرض آيات
الله سبحانه وتعالى له آيات تملأ الأرض والسماء ولكننا غافلون عنها، ومن
الاعجاظ الالهي أن آيات الله لا تنتهي، فاذا مشيت في الطريق فهناك آيات،
واذا صعدت الى الجبل فهناك آيات، واذا نزلت قاع البحر وجدت آيات، واذا
صعدت الى السماء كانت هناك أكثر من آية.
واذا
نزلت الى باطن الأرض فهناك آيات وآيات، هناك آية في تلك الشجيرة الصغيرة
التي تراها تنبت في سطح الجبل، ساقها هشة لينة ربما لا تحتمل قبضة يدك ومع
هذا فقد فتت الصخر ونبتت فيه، واستطاعات الشجيرة الرقيقة الرفيعة أن تمتد
وتضرب في باطن الجبل وتحصل على الغذاء.
وتتعجب
أنت كيف يمكن أن يحدث ذلك، ومع أنك لو أردت أن تضع ثقبا في سطح الجبل
لاحتجت الى آلات حادة وقوى كثيرة، وتعرف أن الله سبحانه وتعالى الذي خلقها
قد ألان لها الصخر فنبتت فيه، وألان جذورها صخور الجبل فامتدت حتى وصلت
الى المصدر الذي يعطيها االغذاء.
هذه
الآيات لا تحتاج الى بحث ولا الى ميكروسكوب، ولكنها تحتاج لمجرد التأمل،
وفي الأرض آيات كثيرة لا تحتاج منا أكثر من أن نتأملها لنعرف قدرة الله
وعظمته ونؤمن به، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:{ انما
يخشى الله من عباده العلماء} فاطر 28.
لماذا حضّ الله العلماء بالخشية؟ لأنهم وهم يبحثون في مخلوقات الله في
الأرض، يرون أسرارا ودقة خلق وابداع تكوين كان يجب أن يجعلهم أول الساجدين
لله، أول العابدين لله. ولكن هؤلاء العلماء الماديين بدلا من أن يفعلوا
ذلك، أخذوا يحاولون النيل من الدين ومن الايمان، والانسان يعتقد أنه وصل
الى أسرار الكون، ولكنه في الحقيقة لم يصل حتى الى أسرار نفسه، بل انه
ينتقل من قانون الى قانون ولا يعرف كيف ينتقل، ولا ما هو سر هذا الانتقال.
فالانسان وهو مستيقظ له قوانين ربما عرفنا بعضها، ولكنه اذا نام انتقل
الى قانون مختلف تماما مجهول له، فهو يخرج من الزمن، فالانسان وهو نائم لا
يحس بالزمن، فاذا استيقظ فهو لا يعرف كم ساعة نامها ولا بد أن ينظر الى
ساعته ليعرف كم ساعة قضاها وهو غائب عما حوله.
اذن
قانون الزمن ا يسري على النائم فلا يحس بالوقت، لماذا؟ لأن الزمن هو قياس
للأحداث، فنحن نقيس الأحداث بالزمن، والنائم هو خارج عن هذه الأحداث.
والانسان
اذا نام رأى وعيناه مغمضتان، ومشى وجرى وقدماه لا تتحركان من فوق السرير،
وتحدث لسانه ولم يتحرك، ورأى وتكلم مع أناس انتقلوا الى العالم الآخر منذ
سنوات، ومع ذلك فهو يحدثهم ويسمعهم وهم يكلمونه ويسمعونه ويفهم ما
يقولون، والعلم خارج هذه المنطقة تماما فلا يستطيع عالم أن يخبرنا كيف يرى
الانسان وهو نائم، أو يتحرك أو يلتقي مع أناس انتقلوا للعالم الآخر، وكل
ما جاء عن هذه محاولات أطلق عليها اسم العلم، انما هي تخمينات بلا دليل
ومعظمها من الخيال أكثر من الواقع، ومع أن كل هذا يحدث لكل منا ويحدث كل
يوم، تجد هناك من يعلن بوقاحة، ويقول انتهى عصر الدين وجاء عصر العلم
وهؤلاء انما يقولون بهتانا، فالله هو الكاشف لعباده عن العلم، هو القائل في
كتابه الكريم:{ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم
يعلم} العلق 3_5.
ولكن الناس لا يؤمنون، رغم أن هناك من الأدلة المادية في الكون ما لا يعد
ولا يحصى، تهدي الناس الى طريق الايمان والى وجود الله، وهؤلاء الذين لا
يؤمنون بعضهم منكر للدين لأنه يريد أن يكون هو مصدر التشريع، لأن منهج
الله سبحانه وتعالى قائم على العدل بين الناس، وأعطى كل ذي حق حقه، وهم
يريدون أن يتميزوا وأن يأخذوا حقوق غيرهم ولا سبيل الى ذلك الا أن يضعوا
منهجا من صنعهم، يعطيهم كل شيء ويسلب غيرهم كل شيء، والطريقة الوحيدة لذلك
هي أن ينكروا منهج السماء.
والقسم الثاني فضل أن يعيش مع النعمة بدلا من أن يعيش مع المنعم، وهؤلاء
الناس الذين متعهم الله سبحانه وتعالى بنعمه في الدنيا لم يفكروا كيف
جاءت هذه النعم ولكنهم أرادوا أن يأخذوا من النعم كل ما يستطيعون،
وأعماهم الطمع الانساني، فلم يفكروا الا في الحصول على نعمة المال أو نعمة
السلطة أو غيرها من نعم الكون، وهؤلاء شغلوا أنفسهم بالمادة بدلا من أن
يفكروا فيمن خلق المادة، وأخذوا النعم في أنهاةحق لهم دون أن يبحثوا عمن
أوجدها، فرغم أن قوانينهم المادية التي يؤمنون بها، تقول: انه لا شيء يحدث
في الدنيا بدون فاعل، فلم نجد مثلا عمارة نشأت هكذا دون أن يكون لها مهندس
وعمال وغير ذلك ممن أقاموها، ولم يجلسوا في بيوتهم مثلا ليجدوا كمية من
المال ظهرت أمامهم فجأة، وكل مصالحهم لا بد أن يتحركوا لقضائها.
ومع
أن قانون المادة يقول انه لا يوجد فعل دون فاعل، فانهم لم يطبقوا هذا
القانون على الكون كله، بل ادعوا أن الكون قد خلق بدون فاعل، بعضهم قال:
حدث هذا بتفاعل المواد!! ولو أنصفوا لسألوا من الذي أوجد المادة أولا ومن
الذي حركها ثانيا، ولكنهم تناسوا هذا السؤال.
وحتى
اذا صدمتهم آية من آيات الله تكبروا عليها، ولعل هذا واضح في العالم
الغربي الذي يحاول الفصل بين العلم والدين فصلا تاما، وربما كان السبب في
ذلك هو المعركة الرهيبة التي قامت بين العلم والكنيسة واستمرت أكثر من
قرنين، وقد كانت المنيسة تنكر العلم تماما استنادا الى التوراة وهو الكتاب
المقدس لليهود، والذي تؤمن به الكنيسة، وما جاء في التوراة يقول انه شجرة
التفاح التي أكل منها آدم هي شجرة المعرفة، انه حينما أكل آدم التفاحة،
كشفت له علوم كثيرة فغضب الله عليه وطرده من الجنة، وكانت هذه هي المعصية
الأولى التي ما زالت البشرية تعاني منها حتى الآن، والتي نكفر عنها بحياتنا
في الأرض المليئة بالشقاء ولو لم يأكل آدم تفاحة المعرفة لكنا حتى الآن
نعيش في الجنة.
هذه الخرافة المحرفة هي التي أدت الى المعركة بين الكنيسة والعلم! تلك
المعركة التي تعرّض فيها العالم الايطالي " جاليليو جاليلي" في القرن
الخامس عشر الى غضب الكنيسة عندما أثبت بالأدلة المادية كروية الأرض
وأصدرت الكنيسة حكما بحرقه حيا لأنه كفر، واضطر العالم الايطالي أن ينكر
ما اكتشفه.
ولكن
موقف الاسلام مختلف، ذلك أن التفاحة التي أكلها آدم هي منهج الشيطان الذي
أظهر عوراته وكشفها، كما يظهر تزيين الشيطان للناس في الدنيا عوراتهم
فيكشفها فيصيبهم الخزي والعار.
العلم كاشف قوانين الكون
أما العلم فالاسلام ينظر اليه على أنه من الله أولا، فالله يكشف آياته في
الأرض للانسان، ولانسان يكتشف ولا يخلق أو يضع في الكون قوانين جديدة من
صنعه، ولكن الله يكشف لمن يشاء قوانين كونه ولكل قانون وكشف ميلاد، فاذا
جاء ميلاد لقانون كوني، كشفه الله لمن يبحث عنه من البشر فيعرفونه
ويستخدمونه.
والله سبحانه وتعالى الذي قال:{ علم الانسان ما لم يعلم}.
يجب
أن نعرف أن كل علم هو من الله، والله سبحانه وتعالى ميز الانسان على
الملائكة بالعلم، فقال جل جلاله:{ وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على
الملائكة فقال أنبئوني يأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم
لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم،
فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم اني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم
ما تبدون وما كنتم تكتمون} البقرة 31_ 32.
هذا
هو موقف الاسلام من العلم وان كان للكنيسة موقف آخر في معركة استمرت
قرنين كاملين بين الكنيسة والعلماء، وعندما انتصر العلماء عملوا على تضييق
نفوذ الكنيسة بحيث أصبحت لا دخل لها بالعلم، وفصلوا الدين عن الدولة الى
آخر ما يرويه التاريخ.
والعلماء
في أبحاثهم يحاولون انكار دور الدين ايمانا بذاتيتهم، فهم يريدون أن
يقولوا نحن فعلنا ونحن اكتشفنا كما قال قارون:{ قال انما أوتيته على علم
عندي} القصص 78.
ولذلك
ليس في بالهم الله وسيفاجأون بالله سبحانه وتعالى في الآخرة، مصداقا
لقوله تعالى:{ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا
جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب} النور
39.
ولا
يحسب أحد أن هؤلاء الذين كفروا فعلوا ذلك لأن آيات الله لم تصل اليهم، بل
الآيات أمامهم ولكنهم هم الذين يتكبرون على الايمان، ويقول الحق سبحانه
وتعالى:{ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين} الأنعام
4.
ولذلك
فان اعراضهم ليس على أن الدليل المادي على وجود الله غائب عنهم ولكن
لأنهم يرفضون الايمان، اما ليحققوا مصالح ذاتية، واما لأنهم لا يؤمنون
بالآخرة، فيحاولون أن يأخذوا كل ما تعطيهم الدنيا على أن هذا هو كل شيء،
وتكون النتيجة أنهم يستخدمون كل الوسائل حلالا أو حراما في الوصول الى
أهدافهم، عملا بمبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة.
ولو
أنهم فكروا قليلا لوجدوا الآيات في القرآن الكريم معجزات، ولو أنهم كانوا
علماء وباحثين فعلا، لقرأوا القرآن الذي سمعوا عنه، ودرسوا الاسلام دراسة
غير مغرضة، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وانهم مثلا لو
التفتوا الى الآية الكريمة:{ فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة}
الاسراء 2.
لعرفوا الاعجاز في هذه الآية وحدها، ولكان الاعجاز فيها كافيا لأن يؤمنوا، الله سبحانه وتعالى يقول:{ وجعلنا آية النهار مبصرة}.
وهكذا
وصف الله النهار بانه هو المبصر، ولكن النهار هو الذي يبصر أم العين هي
التي تبصر؟ الذي نفهمه من تلقائية الأبصار أن العين هي تبصر، ولكن الحقيقة
العلمية تختلف، فلقد ثبت علميا أن ضوء الشمس ينعكس على الأشياء ثم تدخل
أشعة النور الى العين فتبصر.
اذن
فالعين لا تبصر بذاتها ولا بذاتيتها، ولكنها تبصر بالضوء الذي ينعكس على
الأشياء الموجودة أمامهما ويدخل الى العين، فاذا ذهب هذا الضوء وجد
الظلام فان العين لا تبصر ولا ترى شيئا في الظلام الدامس، الا أن تأتي
بمصباح أو مصدر من نور يلقي الضوء على الأشياء فينعكس على العين فتبصر.
وهكذا نرى دقة التعبير في القرآن الكريم في قوله تعالى:{فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة}.
فالأبصار
نسبه الله سبحانه وتعالى لضوء النهار ولم ينسبه الى العين ولقد نزلت هذه
الآية والبشر كلهم لا يعلمون كيف يتم الابصار؟ ماذا كان يحدث لو تقدم
العلم وكشف أن العين تبصر بذاتها وليس بانعكاس الضوء على الأشياء، أكنا في
هذه الحالة نستطيع أن نقرأ في الصلاة:{ فمحونا آية الليل وجعلنا آية
النهار مبصرة}.
ألم يكن هذا كافيا لهدم قضية الدين من أساسه.
ولو أن هذا القرآن ليس من عند الله، وأنه من عند محمد عليه الصلاة
والسلام، فما الذي كان يجعله يغامر بذكر قضية علمية كهذه القضية قد يثبت
عدم صحتها فيضيع الدين كله، ومن أين له هذه المعلومات حتى يعرف أن الابصار
يحدث بضوء النهار؟ أليس هذا دليلا ماديا كافيا للايمان بالله، وللايمان
بأن القرآن منزل من عند الله الخالق لهذا الكون والعالم بأسراره؟!
معنى كروية الأرض
ان القرآن كلام الله المتعبد بتلاوته الى يوم القيامة، ومعنى ذلك أنه لا
يجب أن يحدث تصادم بينه وبين الحقائق العلمية في الكون، لأن القرآن
الكريم لا يتغير ولا بتبدل، ولو حدث مثل هذا التصادم لضاعت قضية الدين
كلها، ولكن التصادم يحدث من شيئين: عدم فهم حقيقة قرآنية، أو عدم صحة
حقيقة علمية، فاذا لم نفهم القرآم جيدا وفسرناه بغير ما فيه حدث التصادم،
واذا كانت الحقيقة العلمية كاذبة حدث التصادم، ولكن كيف لا تفهم الحقيقة
القرآنية؟ سنضرب مثلا لذلك ليعلم الناس أن عدم فهم الحقيقة القرآنية قد
يؤدي الى تصادم مع حقائق الكون، الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه
العزيز:{ والأرض مددناها} الحجر 19.
والمد معناه البسط، ومعنى ذلك أن الرض مبسوطة، ولو فهمنا الآية على هذا
المعنى لأتهمنا كل من تحدث عن كروية الأرض بالكفر خصوصا أننا الآن بواسطة
سفن الفضاء والأقمار الصناعية قد استطعنا أن نرى الأرض، على هيئة كرة تدور
حول نفسها، نقول: ان كل من فهم الآية الكريمة:{ والأرض مددناها}.
بمعنى أن الأرض مبسوطة لم يفهم الحقيقة القرآنية التي ذكرتها هذه الآية
الكريمة، ولكن المعنى يجمع الاعجاز اللغوي والاعجاز العلمي معا، ويعطي
الحقيقة الظاهرة للعين والحقيقة العلمية المختفية عن العقول في وقت نزول
القرآن. عندما قال الحق سبحانه وتعالى:{ والأرض مددناها}.
أي بسطناها، أقال أي أرض؟ لا، لم يحدد أرضا بعينها، بل قال الأرض على
اطلاقها، ومعنى ذلك أنك اذا وصلت الى أي مكان يسمى أرضا تراها أمامك
ممدودة أي منبسطة، فاذا كنت في خط الاستواء فالأرض أمامك منبسطة، واا كنت
في القطب الجنوبي أو في القطب الشمالي، أو في أمريكا أو أوروبا أو في
أفريقيا وآسيا، أو في أي بقعة من الأرض، فانك راها أمامك منبسطة، ولا يمكن
أن يحدث ذلك الا اذا كانت الأرض كروية، فلو كانت الأرض مربعة أو مثلثة أو
مسدسة على شكل هندسي آخر، فانك تصل فيها الى حافة، لا ترى أمامك الأرض
منبسطة، ولكنكترى حافة الأرض ثم الفضاء.
ولكن الشكل الهندسي الوحيد الذي يمكن أن تكون فيه الأرض ممدودة في كل
بقعة تصل اليها هي أن تكون الرض كروية، حتى اذا بدأت من أي نقطة محددة
على سطح الكرة الأرضية ثم ظللت تسير حتى عدت الى نقطة البداية، فانك طوال
مشوارك حول الأرض ستراها أمامك دائما منبسطة، وما دام الأمر كذلك فانك لا
تير في أي بقعة على الأرض الا وأنت تراها منبسطة أمامك. وهكذا كانت الآية الكريمة:{ والأرض مددناها}.
لقد فهمها بعض الناس على أن الأرض مبسوطة دليل على كروية الأرض، وهذا هو
الاعجاز في القرآن الكريم، يأتي اللفظ الواحد ليناسب ظاهر الأشياء ويدل
على حقيقتها الكونية.
ولذلك فان الذين أساؤوا فهم هذه الآية الكريمة وأخذوها على أن معناها أن
الأرض منبسطة، قالوا هناك تصادم بين العلم والدين، والذين فهموا معنى
الآية الكريمة فهما صحيحا قالوا ان القرآن الكريم هو أول كتاب في العالم
ذكر أن الأرض كروية، وكانت هذه الحقيقة وحدها كافية بان يؤمنوا، ولكنهم لا
يؤمنون. الليل والنهار وجدا معا
فالقرآن الكريم لم يأت بالدلائل التي تؤكد لنا أن الأرض كروية في آية
واحدة، بل جاء في آيات متعددة، لماذا؟ لأن هذه القضية كونية كبرى، ولأن
الكتب القديمة التي أنزلها الله قبل القرآن الكريم قد حرفت بشريا، فأوجدت
تصادما بين العلم والدين، ولذلك يأتي القرآن الكريم ليعطينا الدليل تلو
الدليل على كروية الأرض. يقول الله سبحانه وتعالى:{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار، وكل في فلك يسبحون} يس 40.
الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة يرد على اعتقاد غير صحيح كان
موجودا عند العرب وقت نزول القرآن، وهو أن الليل يأتي أولا ثم بعد ذلك
ياتي النهار، أي أن النهار لا يسبق الليل،ويجيء الحق ليصحح هذا الاعتقاد الخاطئ فيقول:{ولا الليل سابق النهار}. أي
أنكم تعتقدون أن النهار لا يسبق الليل، ولكن الله يقول لكم: ان الليل
أيضا لا يسبق النهار، انهما موجودان معا على سطح الكرة الأرضية، وحيث انه
لم يحدث تغيير في خلق الكون أو في القوانين الكونية العليا بعد أن تم
الخلق، بل بقيت ثابتة تسير على نظام دقيق حتى قيام الساعة، فلو كانت الأرض
على شكل هندسي آخر مربع أو مثلث أو غير ذلك، لكان في ساعة الخلق وجد
النهار أولا، ولكن لا يمكن أن يوجد الليل والنهار معا في وقت واحد على سطح
الكرة الأرضية، الا اذا كانت الأرض كروية، فيكون نصف الكرة مضيئا والنصف
الآخر مظلما.
ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يؤكد هذا المعنى، فذكر آية أخرى تحدد معنى كروية الأرض ودوراتها فقال جل جلاله:
{ وهو الذي جعل الليلة خلفة لمن أراد أن يذكّر أو أراد شكورا} الفرقان 62.
ما
معنى خلفة؟ معناها أن الليل والنهار يخلف كل منهما الآخر، فمثلا في
الحراسات المستمرة، تأتي نوبة حراسة لتخلف نوبة سبقتها ثم تأتي نوبة
الثالث لتخلف الثانية وهكذا.
واذا
فرضنا أن مصنعا يعمل أربعا وعشرين ساعة متوالية، فانه يكون هناك أربع
دوريات تخلف كل منهما الأخرى، ولكننا لا بد أن ننتبه الى أنه في كل هذه
النظم ، لا بد أن تكون هناك دورية هي التي بدأت ولم تخلف أحدا، فاذا قررنا
وضع الحراسة على مكان فان الدورية الأولى تبدأ الحراسة لا نتخلف أحدا
لأنها البداية، واذا بدأنا العمل في المصنع فان الدورية الأولى الت افتتجت
العمل لم تخلف احدا لأنه لم يكن هناك في المصنع عمل قبلها.
وهكذا
في كل شيء في الدنيا، يخلف بعضه بعضا، تكون البداية دائما وليس هناك شيء
قبلها تخلفه، ولكن الحق سبحانه وتعالى قال:{ وهو الذي جعل الليل والنهار
خلفة}.
وما
دام الله هو الذي جعل فلا بد أن يكون ذلك حدث ساعة الخلق، فأوجد الليل
والنهار خلفة على الأرض، ولكننا كما أوضحنا، فان ساعة البداية في كل شيء
لا يكون فيها خلفة، أي لا يخلف شيء شيئا قبله، فهذه هي البدايات، ولكن
الله يقول لنا: انه في ساعة البداية كان الليل والنهار خلفة، اذن فلا بد
أن يكون الليل والنهار قد وجدا معا ساعة الخلق على الأرض، بحيث أصبح كل
منهما خلفة للآخر، فلم يأت النهار أولا ثم خلفه الليل، لأنه في هذه لحالة
لا يكون النهار خلف بل بداية، ولم يأت الليل أولا ثم يخلفه النهار لأنه في
هذه الحالة لن يكون الليل خلفة بل بداية، ولا يمكن أن يكون الليل
والنهار كل منهما خلفة للآخر الا اذا وجدا معا.
ونحن
نعلم أن الليل والنهار يتعاقبان علينا في أي بقعة من بقاع الأرض، فلا
توجد بقعة هي نهار دائم بلا ليل، ولا توجد بقعة هي ليل دائم بلا نهار، بل
كل يقاع الأرض فيها ليل وفيها نهار، ولو أن الأرض ثابتة لا تدور حول
نفسها، ووجد الليل والنهار معا ساعة الخلق فلن يكونا خلفة ولن يخلف أحدهما
الآخر، بل يظل الوضع ثابتا كما حدث ساعة الخلق، وبذلك لا يكون النهار
خلفة لليل ولا الليل خلفة للنهار.
ولكن
لكي ياتي الليل والنهار يخلف كل منهما الآخر فلا بد أن يكون هناك دوران
الأرض لتحدث حركة تعاقب الليل والنهار، فثبوت الأرض منذ بداية الخلق لا
يجعل الليل والنهار يتعاقبان، ولكن حركة دوران الأرض حول نفسها هي التي
ينتج عنها هذا التعاقب أو هذه الخلفة التي اخبرنا الله سبحانه وتعالى بها.
اذن فقول الحق سبحانه وتعالى:{ وجعلنا الليل والنهار خلفة}.يحمل معنيين:
المعنى
الأول: أنهما خلقا معا، فلم يسبق أحدهما الآخر، وهذا اخبار لنا من الله
سبحانه وتعالى بأن الأرض كروية. والمعنى الثاني: أن الأرض تدور حول نفسها،
وبذلك يتعاقب الليل والنهار.
وهكذا
نرى الاعجاز القرآني، فالقائل هو الله، والخالق هو الله، والمتكلم هو
الله، فجاء في جزء من آية قرآنية ليخبرنا أن الأرض كروية وأنها تدور حول
نفسها، ولا ينسجم معنى هذه الأية الكريمة الا بهاتين الحقيقتين معا، هل
يوجد أكثر من ذلك دليل مادي على أن الله هو خالق هذا الكون.
ثم
يأتي الحق سبحانه وتعالى ليؤكد المعنى في هذه الحقيقة الكونية لأنه
سبحانه وتعالى يريد أن يري خلقه آياته فيقول:{ خلق السموات والآض بالحق،
يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كل
يجري لأجل مسمى، ألا وهو العزيز الغفار} الزمر 5.
وهكذا
يصف لحق سبحانه وتعالى بان الليل والنهار خلقا على هيئة التكوير، وبما أن
الليل والنهار وجدا على سطح الأرض معا فلا يمكن أن يكونا على هيئة
التكوير، الا اذا كانت الأرض نفسها كروية، بحيث يكون نصف الكرة مظلما
والآخر مضيئا وهذه حقيقة قرآنية أخرى تذكر لنا أن نصف الأرض يكون مضئيا
والنصف الآخر يكون مظلما.
فلو
أن الليل والنهار وجدا على سطح الأرض غير متساويين في المساحة، بحيث كان
أحدهما يبدو شريطا رفيعا، في حين يغطي الآخر معظم المساحة، ما كان الاثنان
معا على هيئة كرة، لأن الشريط الرفيع في هذه الحالة سيكون في شكل مستطيل
أو مثلث أو مربع، أو أي شكل هندسي آخر حسب المساحة التي يحتلها فوق سطح
الأرض، وكان من الممكن أن يكون الوضع كذلك باختلاف مساحة الليل والنهار،
ولكن قوله تعالى:{ يكوّر الليل على النهار ويكوّر النهار على الليل}.
دليل
على أن نصف الكرة الأرضية يكون ليلا والنصف الآخر يكون نهارا، وعندما
تقدّم العلم وصعد الانسان الى الفضاء ورأى الأرض وصورها، وجدنا فعلا أن
نصفها مضيء ونصفها مظلم، كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى.
فاذا
أردنا دليلا آخر على دوران الأرض حول نفسها لا بد أن نلتفت الى الآية
الكريمة في قوله تعالى:{ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب،
صنع الله الذي أتقن كل شيء} النمل 88.
عندما نقرأ هذه الآية ونحن نرى أمامنا الجبال ثابتة جامدة لا تتحرك نتعجب لأن الله تعالى يقول:{ تحسبها جامدة}.
ومعنى
ذلك أن رؤيتنا للجبال ليست رؤية يقينية، ولكن هناك شيئا خلقه الله سبحانه
وتعالى وخفي عن أبصارنا، فما دمنا نحسب فليست هذه هي الحقيقة، أي ان ما
نراه من ثبات الجبال وعدم حركتها ليس حقيقة كونية وانما اتقان من الله
سبحانه وتعالى وطلاقة قدرة منه بأنه خلق شيئا جعلنا نراه على غير حقيقته
وتلك طلاقة قدرة الخالق، لأن الجبل ضخم كبير بحيث لا يخفى عن أي عين، فلو
كان الحجم دقيقا لقلنا لم تدركه أبصارنا كما يجب، أو أننا لدقة حجمه لم
نلتفت اليه هل هو متحرك أم ثابت، ولكن الله خلق الجبل ضخما يراه أقل الناس
ابصارا حتى لا يتحجج أحد بأن بصره ضعيف لا يدرك الأشياء الدقيقة. وفي نفس
الوقت قال لنا أن هذه الجبال الثابتة تمر أمامكم مرّ السحاب.
ولماذا
استخدم الحق سبحانه وتعالى حركة السحب وهو يصف لنا تحرّك الجبال؟ لأن
السحب ليست لها ذاتية الحركة، فهي لا تتحرك من مكان الى آخر بقدرتها
الذاتية، بل لا بد أن تتحرك بقوة تحرك الرياح، ولو سمنت الرياح لبقيت
السحب في مكانها بلا حركة وكذلك الجبال.
الله
سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن الجبال ليست لها حركة ذاتية، أي أنها لا
تنتقل بذاتيتها من مكان الى آخر، فلا يكون هناك جبل في أوروبا، ثم نجده
بعد ذلك في أمريكا وآسيا، ولكن تحركها يتم بقوة خارجة عنها هي التي
تحركها، وبما أن الجبال موجودة فوق الأرض فلا توجد قوة تحرك الجبال الا
اذا كانت الأرض ذاتها تتحرك ومعها الجبال التي فوق سطحها.
وهكذا
تبدوا الجبال أمامنا ثابته أنها لا تغيّر مكانها، ولكنها في نفس الوقت
تتحرك لأن الأرض تدور حول نفسها والجبال جزء من الأرض، فهي تدور معها
تماما كما تحرك الريح السحاب، ونحن لا نحس بدوران الأرض حول نفسها، ولذلك
لا نحس أيضا بحركة الجبال.
وقوله تعالى: { وهي تمر مر السحاب}.
معناها
أن هناك فترة زمنية بين كل فترة تمر فيها، ذلك لأن السحاب لا يبقى دائما
بل تأتي فترات ممطرة وفترات جافة وفترات تسطع فيها الشمس، وكذلك حركة
الجبال تدور وتعود الى نفس المكان كل فترة.
واذا
أردنا أن نمضي فالأرض مليئة بالآيات، ولكننا نحن الذين لا ننتبه، واذا
نبهنا أحد فان الكفار يعرضون عن آيات الله، تماما كما حدث مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم، حين قال له الكفار في قوله تعالى:{ وقالوا لن نؤمن لك
حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار
خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله
والملائكة قبيلا} الاسراء 90_92.
وكان كل هذا معاندة منهم، لأن الأيات التي نزلت في القرآن الكريم فيها من المعجزات الكثير الذي يجعلهم يؤمنون.
السير في الأرض
والحقائق الكونية في القرآن تتوالى، والآيات تلو الآيات، ترينا اعجاز
الخلق ودقته اخبار الخالق لنا عن أسرار السموات والأرض، الله سبحانه
وتعالى يقول:{ قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} الأنعام 11. عندما
نزلت هذه الآية الكريمة أخذنا معناها على أننا نسير في أنحاء الأرض، ولم
ننتبه الى الحقيقة وهي أننا نسير على الأرض، أي فوق سطحها وليس في بطنها
فكيف يقول لنا الحق:{ سيروا في الأرض}.
ولماذا
لم يقل سيروا على الأرض؟! ثم تأتي الحقيقة العلمية وهي أننا فعلا نسير في
الأرض، وليس على الأرض، لأن هناك غلافا جويا يحيط بالأرض وهو جزء منها،
ونحن لا نخرج من الأرض الا اذا خرجنا من هذا الغلاف الجوي.
فالطائرات
التي تطير على ارتفاعات مختلفة تطير في الأرض وليس خارج الأرض، ولكن الذي
يخرج من الأرض هي سفن الفضاء التي تتجاوز الغلاف الجوي للأرض، وبدون
تجاوز هذا الغلاف لا تستطيع أن ترى صورة الأرض كاملة، لأنك ما دمت قد
أصبحت خارج هذا الشيء تتضح أمامك الصورة، فأنت خارج العمار مثلا تستطيع أن
تعرف شكل العمارة ولكنك من داخلها ومن أي مكان فيها لا تستطيع أن ترى
الصورة كاملة.
وعلى أية حال، فانه علميا أنت لا تكون خارج الأرض الا اذا خرجت من الغلاف الجوي المحيط بها، لأن الأرض والغلاف الجوي شيء واحد.
وقوله
تعالى:{ سيروا في الأرض}.يجعلنا نتساءل أين نسير؟ نحن نسير حقيقة على سطح
الأرض ولكننا نسير في الأرض، أي بين سطح الأرض والغلاف الجوي، فما تحتنا
هو أرض وما فوقنا هو جزء مكمل للأرض، وهو الغلاف الجوي، وهكذا نرى دقة
تعبير القرآن الكريم في وصفه لحركة الانسان في الأرض.
واذا كان هذا الوصف يعطينا معجزة فان الأرض نفسها تعطينا معجزة أخرى.
معجزة الخلق في الشجر
نحن نرى ونمشي في مزارع الأرض وحدائقها، ونرى أمامنا الأشجار المحتلفة
والنباتات المختلفة، ولكن هل نعرف أن الباتات تحصل على غذائها بواسطة
جذورها الشعرية الدقيقة، التي تضرب في الأرض، فتأخذ منها عناصر الغذاء
التي تعطيها النمو والثمر، هذه الأرشجار كيف تغذى؟! يقول
العلماء: ان الغذاء يصعد من جذور النباتات الى الساق والأوراق والثمار
ليغذيها، بواسطة ما يسمى بالضغط الاسموزي، أو نظرية الأنابيب الشعرية،
ويدللون على صحة نظريتهم بأنهم يأتون باناء واسع ويضعون فيه أنابيب شعرية،
فنرى الماء يصعد فيها، وهكذا أراد العلم أن يفهمنا أن العملية فيها
ميكانيكية الغذاء، دون أن يكون فيها آيات الخلق واعجاز الخالق.
نقول:
ان هذا التفسير العلمي قد أوضح شيئا و غابت عنه أشياء، فالماء يصعد فعلا
في هذه الأنابيب الشعرية، ولكنه يصعد بكل محتوياته فأنابيب الشعرية لا
تميز بين عناصر الماء، فتأخذ عنصر وتترك عنصرا، ولكن في النبات الأمر
مختلف تماما.
فالغذاء
في الأرض بعناصره كله واحد متجانس، ولكننا نرى كل شجرة تأخذ من هذا
الغذاء ما يناسب ثمارها، أي انها تختار العناصر اللازمة لها، وتترك الباقي
ولا تأخذه، ولذلك نرى الزرع ينبت في مكان واحد ويسقى بماء واحد، ولكن كل
ثمرة لها طعم وشكل ولون ورائحة وحجم يختلف عن الخرى، فهذه حلوة، وهذه مرة،
وهذه كبيرة، وهذه لونها أحمر وهذه لونها أصفر، والثالثة لونها أبيض وهذه
لها رائحة نفاذة وتلك ليس لها رائحة، أشكال وألوان مختلفة، وكل شجرة من
هذه الأشجار تأخذ من الأرض ما يناسبها من عناصر التكوين الدقيق لها بكل
تفاصيله وتترك الباقين ونرى شجرة التفاح ثمرها حلو ورائحتها نفاذة،
وبجانبها الليمون طعمه حامض، ويجانبها الحنظل طعمه مر، وثمرة نأكلها ونترك
ما بداخلها مثل المشمش والخوخ والبلح، وثمرة ننزع غلافها لا نأكله ولكننا
نرميه كالبرتقال والبطيخ، وثمرة لها غلاف هش كالبرقوق مثلا، وثمرة غلافها
جادم قوي لا تستطيع أن تنزعه بيديك كالجوز واللوز والبندق وجوز الهند،
وثمرة صالحة للتخزين أياما أو أسابيع كأنواع من البطيخ، وثمرة صالحة
للتخزين شهورا طويلة كالجوز واللوز.
وأستطيع
أن أمضي بلا نهاية في وصف انواع الثمر المختلفة التي تنبتها الأشجار،
ولكنني أفضل أن أذكر الآية الكريمة التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى.{
وفي الأرض قطع متجاورات وجنات أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى
بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، ان في ذلك لآيات لقوم يعقلون}
الرعد 4.
ونحن نمر على الجنات الموجودة في كل أنحاء الأرض ونرى هذه الآيات، ثم بعد ذلك نتساءل: أين الدليل المادي على أن الله هو الخالق؟!!
سبحانك يا ربي القائل:
{
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين} الأنعام 4.وصدق
الله لعظيم في قوله تعالى:{ قتل الانسان ما أكفره} عبس 17.