ملخص الخطبة: 1- بعض فضل الوالدين على الابن. 2- وصية الله ورسوله بر الوالدين. 3- بر إبراهيم عليه السلام. 4- صور من بر السلف. 5- التحذير من عقوق الوالدين. 6- دعوة الوالد على ولده العاق مستجابة. 7- ثمرات بر الوالدين.
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله، إن للوالدين حقاً عظيماً وفضلاً ـ بعد فضل الله ـ جليلاً كريماً، وصى الله عز وجل به وتنزل به الروح الأمين من فوق السماوات السبع العلا.
اثنان إذا ذكرتهما ذكرت البر والإحسان، اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان ... مضت أيامهما وانقضى شبابهما وبدا لك مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلباً رقيقاً وبراً عظيماً، وقفا ينتظران منك وفاء وبراً، والجنة أو النار لمن برّهما أو عقهما، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسئ لهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن نظر إليهما نظر رحمة وودّ وإحسان، وتذكر معها ما كان منهما من برّ وعطف وحنان، طوبى لمن أسهر ليله ونصب في نهاره وضنى جسده في حبهما، طوبى لمن شمر عن ساعد الجد في برهما، فما خرجا من الدنيا إلاّ وقد كتب الله له رضاهما.
أيها الأحبة في الله، إننا في زمان قد عظمة غربته واشتدّت كربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء ولم يرحم البنات شفقة الأمهات، في هذا الزمان الذي قلّ فيه البر وازداد فيه العقوق والشر، نحتاج إلى من يذكرنا فيه بحق الوالدين وعظيم الأجر لمن برهما.
لذا كله كانت هذه الموعظة، فلنصغ بأسماعنا إلى كتاب ربنا الذي دلنا على عظيم حقهما قال تعالى: {وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً} [النساء: 36]، وقوله سبحانه: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام: 151]، وقوله جل شأنه: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [سورة الإسراء: 23-24].
أخي الحبيب، تأمّل صغرك وضعفك حال طفولتك تذكّر معاناة أمّك منك، وذلك حينما جعلت بطنها لك وعاءً، ودمها لك غذاءً، تأمل حملها لك في بطنها تسعة أشهر، تحمل معها الآلام والأنّات والزفرات، فإذا قرب وقت وضعك وحانت ساعة خروجك إلى الدنيا اختلطت مشاعرها، فرح وحزن ... خوف واستبشار ... فتفرح وتستبشر بمقدمك .. وتخاف وتحزن من هول أمر وضعك، وما قد يحدث من أثر ذلك، ولكن يغلب فرحها واستبشارها بمقدمك على خوفها وحزنها، فكل شيء لديها يهون إذا رأتك صحيحاً سليماً، ووالله إنها لترى الموت بعينيها وتذوق من الآلام ما يود المرء أن يكون معه نسياً منسياً، ولكنها بعاطفتها الجياشة آثرت صحتك على صحتها ونجاتك بهلاكها، إنها عند رؤيتها لك تنسى جميع الهموم والآلام وتعلق عليك بعد الله آمالها.
وتبدأ الرحلة الشاقة لأمك فهاهي ترضعك حولين كاملين، تسهر لسهرك وتتألم لألمك وتحزن لحزنك وتزيل الأذى عنك بيديها دون تردد أو تأفّف، وصدق الله إذ قال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ} [سورة لقمان: 14]، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [سورة الأحقاف: 15].
أمّا أبوك، فأنت له مجبنة مبخلة محزنة، يكد ويسعى ليوفر لك لقمة عيش سائغة، ويذود عنك صنوف الأذى لتعيش بين الناس بسلام، إذا غبت عنه أصيب بالحيرة والحزن، وإذا مرضت اهتم لك وقلق، يجتهد في تربيتك و إصلاحك، إذا دخلت عليه هشّ في وجهك، وإذا أقبلت عليه بش في وجهك، وإذا خرج تعلقت به رغبةً وحباً، وإذا حضر التزمت حجره واحتضنت صدره حناناً وودّاً.
أخي الكريم، هذان هما والداك وتلك هي طفولتك وصباك، وبقي الواجب عليك تجاههما، والذي نستلهمه من توجيه نبيك عليه الصلاة والسلام عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "أيّ العمل أحب إلى الله؟"، قال: «الصلاة على وقتها»، قلت: "ثمّ أيّ؟"، قال: «بر الوالدين»، قلت: "ثمّ أيّ". قال: «الجهاد في سبيل الله» [رواه مسلم].
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه». قيل: "من يا رسول الله؟"، قال: «من أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما ثمّ لم يدخل الجنة». وفي الصحيحين أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: «أحيّ والداك؟»، قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد».
وهكذا عباد الله تتعاضد التوجيهات النبوية على تقديم بر الوالدين على غيرهما، بل إن من عظم حقهما أن تتواصل مع كل من يسرهما وصاله، والذي فيه إبقاء لروابط المودة التي كانت بين الوالدين وأهل ودّه ، بل وانتقالها إلى أولاده .
ولنا مع قصص البارّين بآبائهم وقفة، ومن أعظمهم الأنبياء عليهم صلاة الله وسلامه.
مثال ذلك إبراهيم عليه السلام الذي بر أباه في دعوته إلى عبادة الله وحده وترك ما كان يعبد من الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ومخاطبته بأجمل وألطف خطاب {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴿٤٥﴾ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ ۖ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ ۖ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴿٤٦﴾ قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [سورة مريم: 45-47].
وموقف آخر ذكر عن أحد التابعين فقيل له: "إنك من أبر الناس بأمك، ولا نراك تؤاكل أمك؟"، فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه، فأكون قد عققتها".
وعن ابن عون المزني أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين.
وقيل لعمر بن ذر: "كيف كان بر ابنك بك؟"، قال: "ما مشيت نهاراً قط إلاّ مشى خلفي، ولا ليلاً إلاّ مشى أمامي، ولا رقى سطحاً وأنا تحته"..
قيل في حق الأم:
لأمـك حـق لـو علمــت كبيـر *** عظيمك يا هذا لديـه يسـير
فكـم ليلـة باتـت بثقلـك تشتكـي *** لها من جواهـا أنّـة وزفيـر
وفي الوضع لو تدري عليك مشقـة *** فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسـلت عنـك الأذى بيمينهـا *** ومن ثديها شرب لديك نميـر
وقيل في حق الأب:
غذوتـك مولـوداً وعلتك يافعاً *** تكل بما أجني عليك وتنهـل
إذاً ليلـة ضافتك بالسقم لم أبت *** لسقمك إلاّ سـاهراً أتملمـل
كأني أنا الطروق دونك بالـذي *** طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني *** لأعلم أن الموت دين مؤجـل
عباد الله، لئن كان البر بالوالدين بهذه المنزلة العظيمة فاعلموا أن عقوقهما من أكبر الكبائر. فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلاّ عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات» [ضعفه الألباني]، وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنب أحرى أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» [صححه الألباني في الأدب المفرد]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرّم عليكم عقوق الأمهات» [رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ـ وكررها ثلاثاً ـ قلنا: "بلى يا رسول الله"، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين» [رواه البخاري].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن خمر والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والديوث والرجلة» [قال الألباني حسن صحيح].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ملعون من عق والديه» [قال الألباني صحيح لغيره]، واعلم أيها العاق أن دعوة الوالد على ولده مستجابة، وإليك هذه القصة التي تظهر لنا خطر العقوق للوالدين، ذكر أن شاباً كان كثيراً ما يلهو ويلعب ويشتغل بالمنكرات والمعاصي وكان له والد صاحب دين وتقوى، فنهاه وزجره.
فذات مرّة أكثر عليه بالنصح وألح عليه، فما كان من الولد إلاّ أن رفع يده ولطم أباه على خده. فأقسم بالله ليخرجن إلى البيت الحرام ويدعو عليه، فأنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا *** عرض المهامة من قرب ومن بعد
إني أتيتـك يا من لا يخيـب من *** يدعوه مبتهـلاً بالواحـد الصمـد
هذا منازل لا يرتـد من عققـي *** فخذ بحقي يا رحمـن من ولـدي
وشل منه بحول منـك جانبـه *** يا من تقـدس لم يـولد ولم يلـد
فقيل ما أتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن.
فاحذروا العقوق قليله وكثيره نجانا الله وإياكم من عذابه وأليم عقابه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فإن لبر الوالدين ثمرات عظيمة بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فاعلموا أنه سبب في زيادة العمر وسعة الرزق وتفريج الكربات وإجابة الدعوات وانشراح الصدر وطيب الحياة.
وهو سبب في بر الأبناء بالآباء كما أنه دليل على صدق الإيمان وكرم النفس وحسن الوفاء، عن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: «هل لك من أمّ؟»، قال: "نعم". قال: «فالزمها فإن الجنة تحت رجليها» [قال الألباني حسن صحيح].
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» [حسنه الألباني]، وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم...» [ضعفه الألباني].
وفي قصة أصحاب الغار الثلاثة عبرة، فمن بينهم رجلاً كان باراً بوالديه فذكر ما كان منه معهما من البر ثم قال: «فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء. ففرّج الله عز وجل لهم حتى يرون منها السماء...» [رواه البخاري].
وعن عمر رضي الله عنه قال سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص، فبرأ منه إلاّ موضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» [رواه مسلم].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى عليه وسلم: «دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟»، قالوا: "حارثة بن النعمان". فقال صلى الله عليه وسلم: «كذلكم البر، كذلكم البر» [صححه الألباني]، وكان أبر الناس بأمه.
بهجت العمودي