ملخص الخطبة:
كيف يعرف المرء مدى اتصافه بحسن الخلق من عدمه – الضوابط والعلامات التي حدد بها الرسول صلى الله عليه وسلم حسن الخلق : أ- المعيار المجمل : محبة الخير لأخيه المسلم ب- المعيار المفصل: الأحاديث الدالة على مكارم الأخلاق: الأمانة – كظم الغيظ – عدم أذية الجار, والإحسان إليه – حسن اللقاء والمعاشرة – التعاون وقضاء حاجة المسلم – أسباب الألفة والمحبة: الكلام الطيب واللين – إفشاء السلام – الهدية – الزهد فيما في أيدي الناس.
الخطبة الأولى:
أما بعد:
أيها المسلمون، بينا في درس مضى فضل حسن الخلق ومنزلته في الدين وطرفاً من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى الله عليه في كتابه.
وكأني بنا نتسائل كيف يعرف الواحد منا مدى اتصافه من بحسن الخلق من عدمه ومدى التزامه بهذا التوجيه الكريم الذي يأمرنا فيه ربنا بالإقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نوعين من الضوابط والعلامات الدالات على حسن الخلق فمنها ما هو مجمل ومنها ما هو مفصل ولا نستطيع أن نأتي عليها كلها لكثرتها كثرة مستفيضة كما صح عنه. أما المعيار المجمل ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [رواه البخاري ومسلم والترمذي]. وفي رواية النسائي: «والذي نفس محمد بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير» [رواه النسائي وصححه الألباني]، وهذه الرواية تفيد فائدة عظيمة وتقطع دابر من أراد أن يستعمل الحديث في غير ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يقول أنا أحب كذا وكذا مما يسخط الله فأريد أن أجلبه إلى أخي المسلم فتقطع هذه الوساوس بهذه الرواية الثانية: الخير فيما يحبه الله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن كنت تحب لإخوانك المسلمين ما تحبه لنفسك من خير فأنت إن شاء الله من ذوي الخلق الحسن.
وقد صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
«وخالق الناس بخلق حسن» [رواه ابن العربي المنذري السفاريني الحنبلي ابن حجر]. فما تحب أن يؤتوه إليك فبادرهم به إذا كان في حدود الشرع، فقد قال الله تعالى عن شعيب عليه السلام وهو يخاطب قومه: ولا تبخسوا الناس أشياءهم.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في حسن الخلق نذكر طرفاً منها فمن ذلك:
قاله صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» [صححه الألباني] فهل أنت من هؤلاء القوم فتعفو وتصفح ولا تخن من خانك.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» [رواه البخاري ومسلم]. فهل أنت إذا ما أغضبك أحد كبت جماح نفسك ولم تترك لها الحبل على الغارب فتكون شديداً بحق كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الله جل وعلا: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133،134]. فأين نحن يا عباد الله من هذه الصفات، هل نحن ممن يكتم الغيظ ويعفو عن الناس حتى إن أساءوا إليه.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظا، وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين يزوجه منها ما يشاء» [حسنه الألباني]. وقد قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 96] فإذا أساء إليك إنسان فادفع إليه بالكلمة التي هي أحسن وبالفعلة التي هي أحسن وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 43] وهذه نتيجة دفع السيئة بالحسنة.
ومن معايير حسن الخلق ما ذكره النبي بقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره» [رواه البخاري ومسلم]، وفي الحديث الآخر: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه» [صححه الألباني]،وروي عنه صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به» [قال الهيثمي إسناد البزار حسن]. وفي الحديث الصحيح: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه (أو قال لجاره) ما يحب لنفسه» [رواه مسلم]. فهل نحن ممن يحسن الجوار، وقد قلنا فيما سبق أن حسن الخلق والجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره» [رواه البخاري ومسلم].
ومن معايير حسن الخلق ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له» [صححه الألباني]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» [صححه الألباني].
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ} [سورة النساء: 58]، فهل نحن ممن يحفظون العهود والمواثيق ونحفظ الأمانات حتى نؤديها إلى أهلها.
ومن ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق» [رواه مسلم]، وقال: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة» [قال الألباني صحيح لغيره]، فهل نحن ممن يحسن اللقاء والمعاشرة، هل نحن ممن يبتسمون دائماً. فقد صح عن عائشة رضي الله عنها في وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان بساماً أي يكثر التبسم [ضعفه الألباني]. وقد صح عن بعض الصحابة أنه قال: ما حجبني النبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم في وجهي [رواه البخاري ومسلم]، بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه.
فعلينا يا عباد الله أن نعرف أثر هذا التوجيه الكريم، فإنها عبادة من العبادات أن تقابل إخوانك بالابتسامة.
ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه، صدقة» [رواه مسلم]. فإن إعانة الآخرين والسعي إلى قضاء حوائجهم من علامات حسن الخلق فينبغي أن يسعى الإنسان إلى ذلك. فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في المسجد ذات يوم فدخل رجلٌ وعلى وجهه علامات الهم والغم فقال له ابن عباس: "ما لك يا ابن أخي؟"، فقال: "إن علي ديناً وقد حل أجله وليس عندي سداده". فقال ابن عباس: "أتريد أن أكلم لك صاحب الدين أن ينظرك إلى ميسرة؟". قال: "نعم". فأمسك بيده يمشيان في المسجد حتى إذا وصلا إلى الباب قال الرجل: "يا ابن عباس أنسيت أنك معتكف وأن المعتكف لا يخرج من المسجد". قال: "كلا ما نسيت ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا» [حسنه الألباني]".
و قد صح عنه صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى: «ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهرا» [حسنه الألباني].
فلنعرف هذا المنهج عباد الله ولنعلم منزلة حسن الخلق ولنعلم أن من أحب الأعمال سرور تدخله على مسلم، وهذا حديث صحيح عن الرسول عليه الصلاة والسلام [حسنه الألباني].
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلى وسلم عليه وعلى صحبه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا عباد الله فمن معايير حسن الخلق المفصلة أن تقيس بنفسك أين أنت من هذه الصفات؟. قال الله جل وعلا في وصف أهل الجنة: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} [سورة الحج: 24]، وقال جل وعلا آمراً لنا: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، وقال: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الطيبة صدقة» [رواه ابن حبان والزرقاني والصعدي]، وقال جل وعلا حينما بعث موسى وهارون إلى فرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] والذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، بعثهما الله سبحانه وتعالى آمراً لهما: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].
وقد جاء أن أحد الوعاظ جاء ينصح أحد العصاة وقد شدد عليه، فقال له الفاسق: رويداً يا ابن أخي فلست خيراً من موسى وهارون ولست بأفسد من فرعون فإن الله قد ابتعث من هو خير منك إلى من هو شر مني وقال له: وقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى.
فعلينا يا عباد الله أن نعي هذا التوجيه الكريم. وكان صحابة رسول الله فيما روي عنهم أنهم كانوا يختارون أطايب الكلام كما ينتقي أحدنا أطايب التمر من القصعة.
فعلينا عباد الله أن نتعامل فيما بيننا بهذا الخلق، ونحذر من الشياطين، فإن الشيطان ينزغ بيننا بكلمة من هذا تقع عند هذا فتكون البغضاء والكراهية.
فعلينا أن نعلم أن الكلام الطيب صدقة وأن القول اللين عبادة.
ومن ذلك ما ذكره الرسول: «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» [صححه الألباني]، فهذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي، يأمرنا رسول الله بإفشاء السلام الذي أصبح هذا الزمان على المعرفة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم: «إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة» [رواه أحمد بإسناد جيد]. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: «أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» [رواه البخاري ومسلم]. وقال الله جل وعلا: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]. فالواجب علينا يا عباد الله أن نفشي السلام بيننا، فقد قال الرسول: «ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» [رواه ابن حجر العسقلاني وقال أصله في مسلم].
ومن دواعي إفشاء المحبة ما ذكر النبي في قوله: «تهادوا تحابوا» [حسنه الألباني]، فإن الهدية من علامات حسن الخلق، فإن الرسول كان يقبل الهدية ويثيب عليها [رواه البخاري].
ومن جوالب المحبة بين المسلمين ما ذكره الرسول بقوله: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» [رواه النووي وقال حسن]، فليزهد المرء فيما في أيدي الآخرين، وليكن أوثق فيما عند الله عن ما في يده.
فإنني أحذر من يسألون الناس دائماً، فليتعفف المرء المسلم. والملاحظ أنك ترى كثيراً من الناس ليس بهم بأس شديد يضطرهم إلى الوقوف بين أيدي الناس.
وقد صح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه ذهب مع رجل قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: أنه من أهل الجنة فبات عنده ابن عمرو ثلاث ليال، فقال ابن عمرو: يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، فأردت أن أعرف عملك. فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشا ولا حسدا.. [رواه العراقي وقال إسناده صحيح على شرط الشيخين].
فلنسعى جميعاً إلى تطهير قلوبنا من الغل حتى نكون ممن يغفر الله له: ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا. فإن نزع الغل من صفات أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [سورة الحجر: 47].
فاعلموا أيها الإخوة أن هذه الصفات غيض من فيض وأنها جزء يسير مما أمرنا الله تعالى في كتابه.
أسأل الله العليم رب العرش العظيم كما حسن خلقنا أن يحسن خُلقنا.
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس
بتصرف يسير